سورة إبراهيم - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)}
اعلم أن قوله: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} فيه أبحاث:
البحث الأول: قال صاحب الكشاف: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} مفعول ثان لقوله: {وَأَنذِرِ} وهو يوم القيامة.
البحث الثاني: الألف واللام في لفظ {العذاب} للمعهود السابق، يعني: وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب الذي تقدم ذكره وهو شخوص أبصارهم، وكونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم.
البحث الثالث: الإنذار هو التخويف بذكر المضار، والمفسرون مجمعون على أن قوله: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} هو يوم القيامة، وحمله أبو مسلم على أنه حال المعاينة، والظاهر يشهد بخلافه، لأنه تعالى وصف اليوم بأن عذابهم يأتي فيه وأنهم يسألون الرجعة، ويقال لهم: {أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ} ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة.
وحجة أبي مسلم: أن هذه الآية شبيهة بقوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} [المنافقون: 10] ثم حكى الله سبحانه ما يقول الكفار في ذلك اليوم، فقال: {فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} واختلفوا في المراد بقوله: {أَخِّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} فقال بعضهم: طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرطوا فيه، وقال: بل طلبوا الرجوع إلى حال التكليف بدليل قولهم: نجب دعوتك ونتبع الرسل، وأما على قول أبي مسلم فتأويل هذه الآية ظاهر فقال تعالى مجيباً لهم: {أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} ومعناه ما ذكره الله تعالى في آية أخرى، وهو قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38] إلى غير ذلك مما كانوا يذكرونه من إنكار المعاد فقرعهم الله تعالى بهذا القول لأن التقريع بهذا الجنس أقوى، ومعنى: ما لكم من زوال، لا شبهة في أنهم كانوا يقولون لا زوال لنا من هذه الحياة إلى حياة أخرى، ومن هذه الدار إلى دار المجازاة، لا أنهم كانوا ينكرون أن يزولوا عن حياة إلى موت أو عن شباب إلى هرم أو عن فقر إلى غنى، ثم إنه تعالى زادهم تقريعاً آخر بقوله: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} يعني سكنتم في مساكن الذين كفروا قبلكم، وهم قوم نوح وعاد وثمود، وظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية، لأن من شاهد هذه الأحوال وجب عليه أن يعتبر، فإذا لم يعتبر كان مستوجباً للذم والتقريع.
ثم قال: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} وظهر لكم أن عاقبتهم عادت إلى الوبال والخزي والنكال.
فإن قيل: ولماذا قيل: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} ولم يكن القوم يقرون بأنه تعالى أهلكهم لأجل تكذيبهم؟
قلنا: إنهم علموا أن أولئك المتقدمين كانوا طالبين للدنيا ثم إنهم فنوا وانقرضوا فعند هذا يعلمون أنه لا فائدة في طلب الدنيا، والواجب الجد والاجتهاد في طلب الدين، والواجب على من عرف هذا أن يكون خائفاً وجلاً فيكون ذلك زجراً له هذا إذا قرئ بالتاء أما إذا قرئ بالنون فلا شبهة فيه لأن التقدير كأنه تعالى قال: أولم نبين لكم كيف فعلنا بهم، وليس كل ما بين لهم تبينوه.
أما قوله: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} فالمراد ما أورده الله في القرآن مما يعلم به أنه قادر على الإعادة كما قدر على الإبتداء وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل، وذلك في كتاب الله كثير، والله أعلم.


{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة عقابهم أتبعها بذكر كيفية مكرهم فقال: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن الضمير في قوله: {وَقَدْ مَكَرُواْ} إلى ماذا يعود؟ على وجوه:
الأول: أن يكون الضمير عائداً إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وهذا القول الصحيح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات.
والثاني: أن يكون المراد به قوم محمد صلى الله عليه وسلم والدليل عليه قوله: {وَأَنذِرِ الناس} [إبراهيم: 45] يا محمد وقد مكر قومك مكرهم وذلك المكر هو الذي ذكره الله تعالى في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] وقوله: {مَكْرَهُمْ} أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم.
الثالث: أن المراد من هذا المكر ما نقل أن نمروذ حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتاً وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور، وكان قد جوعها ورفع فوق الجوانب الأربعة من التابوت عصياً أربعاً وعلق على كل واحدة منهن قطعة لحم ثم إنه جلس مع حاجبه في ذلك التابوت فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الدنيا عن عين نمروذ ورأى السماء بحالها فنكس تلك العصي التي علق عليها اللحم فسفلت النسور وهبطت إلى الأرض، فهذا هو المراد من مكرهم.
قال القاضي: وهذا بعيد جداً لأن الخطر فيه عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه وما جاء فيه خبر صحيح معتمد ولا حجة في تأويل الآية ألبتة.
المسألة الثانية: قوله: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} فيه وجهان:
الأول: أن يكون المكر مضافاً إلى الفاعل كالأول. والمعنى: ومكتوب عند الله مكرهم فهو يجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه.
والثاني: أن يكون المكر مضافاً إلى المفعول، والمعنى: وعند الله مكرهم الذي يمكر بهم وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون.
أما قوله تعالى: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} فاعلم أنه قرأ الكسائي وحده {لِتَزُولَ} بفتح اللام الأولى ورفع اللام الأخرى منه، والباقون بكسر الأولى ونصب الثانية.
أما القراءة الأولى: فمعناها أن مكرهم كان معداً لأن تزول منه الجبال، وليس المقصود من هذا الكلام الإخبار عن وقوعه، بل التعظيم والتهويل وهو كقوله: {تَكَادُ السموات يتفطرن الكتاب مِنْهُ} [مريم: 90].
وأما القراءة الثانية: فالمعنى: أن لفظ إن في قوله؛ {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} بمعنى ما واللام المكسورة بعدها يعني بها الجحد ومن سبيلها نصب الفعل المستقبل. والنحويون يسمونها لام الجحد ومثله قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} [آل عمران: 179]. {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين} [آل عمران: 179] والجبال هاهنا مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولأمر دين الإسلام وإعلامه ودلالته على معنى أن ثبوتها كثبوت الجبال الراسية لأن الله تعالى وعد نبيه إظهار دينه على كل الأديان. ويدل على صحة هذا المعنى قوله تعالى بعد هذه الآية: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] أي قد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم. والمعنى: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، أي وكان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال الراسيات التي هي دين محمد صلى الله عليه وسلم، ودلائل شريعته، وقرأ علي وعمرو: {إِن كَانَ مَكْرِهِمْ}.


{فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)}
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} [إبراهيم: 42] وقال في هذه الآية: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم يقم القيامة ولم ينتقم للمظلومين من الظالمين، لزم إما كونه غافلاً وإما كونه مخلفاً في الوعد، ولما تقرر في العقول السليمة أن كل ذلك محال كان القول بأنه لا يقيم القيامة باطلاً وقوله: {مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} يعني قوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] وقوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21].
فإن قيل: هلا قيل مخلف رسله وعده، ولم قدم المفعول الثاني على الأول؟
قلنا: ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً، إن الله لا يخلف الميعاد، ثم قال: {رُسُلَهُ} ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحداً وليس من شأنه إخلاف المواعيد فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته، وقرئ: {مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} بجر الرسل ونصب الوعد، والتقدير: مخلف رسله وعده، وهذه القراءة في الضعف، كمن قرأ قتل أولادهم شركائهم ثم قال: {إِنَّ الله عَزِيزاً} أي غالب لا يماكر ذو انتقام لأوليائه.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9